الخلافة الغائبة- صدمة، نقد، وتحولات في الفكر الإسلامي

المؤلف: د. ياسين أقطاي11.12.2025
الخلافة الغائبة- صدمة، نقد، وتحولات في الفكر الإسلامي

في الذكرى المئوية لإلغاء الخلافة الإسلامية، يظل التدبر العميق في هذا الحدث الجلل ضرورة ملحة. فغياب الخلافة، وما ترتب عليه من فقدان المسلمين لمركز سياسي رائد، يعتبر من أبرز العوامل التي رسمت ملامح واقع المسلمين المعاصر. لقد تم إلغاء الخلافة داخل حدود تركيا، ولكن تداعيات هذا الإلغاء طالت جميع المسلمين في شتى بقاع الأرض.

كان لإلغاء الخلافة أثرٌ مدوٍ على وعي الجيل الأول من الإسلاميين في تركيا. فبعد هذا الحدث المفصلي، يمكن وصف وضع العالم الإسلامي برمته بأنه "مرحلة ما بعد الخلافة". فلأول مرة في تاريخ الإسلام الزاهر، يغدو المسلمون بلا كيان سياسي موحد يحتضنهم، ويمثل طموحاتهم، وينفذ مشاريع الإسلام، ويطبق أحكامه السمحة، ويجسد وجودًا سياسيًا راسخًا باسم الإسلام. وهذا الأمر يشتمل على بُعدين وثيقي الصلة، ينبغي استجلاؤهما بتفصيل:

البعد الأول يتمثل في غياب السوابق الفقهية، إذ لم يشهد الفقه الإسلامي من قبل وضعًا مماثلًا لما أعقب إلغاء الخلافة. ففي الماضي، عاش المسلمون في أحوال كانوا فيها أقلية بين شعوب أخرى، لكنهم كانوا يستشعرون الانتماء إلى كيان سياسي آخر يحميهم، ويرفع شأنهم، ويصون حقوقهم.

البعد الثاني يكمن في تقييم الخلافة قبل إلغائها، وهذا البعد يشير إلى حقيقة جلية، وهي أن الخلافة في الفترة التي سبقت إلغاءها كانت قاصرة عن تلبية تطلعات واحتياجات جموع المسلمين. فقد غدت عرضة لتأثيرات النظام العالمي، وفقدت القدرة على الذود عن مصالح المسلمين. كما ساد شعور بالاستياء نتيجة لغياب مبدأ الشورى، واستخدام الخلافة في بعض الأحيان كأداة لخدمة أهواء الحكام.

وقد انتقد العديد من المفكرين الإسلاميين البارزين في ذلك العصر، والذين عارضوا فيما بعد إلغاء الخلافة، الطريقة التي تم بها تسيير شؤون الخلافة.

فمن سعيد النورسي إلى محمد حمدي يازر، ومن محمد عاكف إلى محمد عاطف خوجة الإسكليپي، انتقد جم غفير من المفكرين وعلماء الدين الإسلامي الأشخاص الذين تقلدوا منصب الخليفة، والطريقة التي تم بها إدارة هذا المنصب الرفيع. وتُظهر فحوى أطروحة الشيخ علي عبد الرازق حول الخلافة، والتي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الأدب الإسلامي في مصر، هذه الانتقادات بوضوح وجلاء.

ولم يكن مستبعدًا أن يؤيد المثقفون الإسلاميون في الدولة العثمانية خيار إلغاء الخلافة، حتى لو لم يكن هذا الخيار مطروحًا على أرض الواقع. ومن الجدير بالذكر أن عمر رضا دوغرول، صهر محمد عاكف أرسوي، قام بترجمة هذه الأطروحة إلى اللغة التركية عام 1927، وفي هذه الأطروحة، أكد عبد الرازق أن الخلافة مؤسسة سياسية صرفة، وليست مؤسسة دينية. وأوضح أن انتقالها إلى سلاطين الدولة العثمانية لم يمنحهم أي سلطة دينية. كما أكد أنه يجوز للمسلمين إظهار قوتهم السياسية من خلال مؤسسات أخرى في ظل ظروف مختلفة.

كان يُنظر إلى خضوع الناس لنمط من الثياب لا يعبر عن رمزيّة ما يؤمنون به، ويمثل جسدًا سياسيًا لا يعتقدون فيه، على أنه أمر كافٍ في البداية

وعندما تم نشر هذا العمل الفكري، لم تكن الخلافة في تركيا قد ألغيت بشكل كامل، بل تم دمج جميع وظائفها وخصائصها في الشخصية الاعتبارية للبرلمان التركي، وهذا يشير إلى أنه إذا كانت هناك ثقة راسخة في كوادر الجمهورية، فإن مثل هذا الحل كان حاضرًا بالفعل في الأفق السياسي للمفكرين الإسلاميين في ذلك الوقت.

وحتى الخطاب المطول الذي ألقاه سيد بك في البرلمان التركي خلال مناقشات إلغاء الخلافة استند إلى ذات النقد الإسلامي للخلافة، بالإضافة إلى ذلك، فإن أهم مصدر استقى منه مصطفى كمال حججه في خطاباته التي ألقاها في مناسبات متعددة لتبرير إلغاء الخلافة، والاستشهاد بحقائق تاريخية عن الخلافة في الإسلام، كان يعتمد على ذات التراكم النقدي الموجه ضد الخلافة.

وعلى الرغم من ذلك، لم يطالب أي من الإسلاميين الذين انتقدوا الخلافة بإلغائها بشكل قاطع. وبات جليًا من مواقفهم اللاحقة أنهم لم يكونوا مستعدين لمثل هذه الخطوة الجريئة. فأولًا وقبل كل شيء، أدى إلغاء الخلافة إلى خلق فراغ قانوني وفقهي كبير، عرقل تطبيق الفقه الإسلامي.

فلم يتناول الفقه الإسلامي بشكل كافٍ كيفية تطبيق أحكام الإسلام أو حتى كيفية ممارسة الوجود الإسلامي في ظل غياب مؤسسة تقود العالم الإسلامي. لقد افترضت تعاليم القرآن وجود المسلمين في منظومة سياسية موحدة وخاطبتهم على هذا الأساس.

وفي غياب هذه المنظومة أو الكيان، تصبح الغالبية العظمى من الأحكام الشرعية معطلة. وهذا يشمل مجموعة واسعة من التطبيقات، بدءًا من إدارة الشؤون المدنية اليومية إلى الأنظمة الاجتماعية على نطاق أوسع. وفي غياب هذا الكيان أيضًا، يغيب المخاطب في آيات قرآنية عديدة.

ويمكن الجزم بأن انتماء الفرد إلى دولة تعبر عن قيمه الدينية هو شرط أساسي ليعيش حياة إسلامية سوية. وقد كانت الدولة التي تطبق أحكام الله تمنح المسلمين شعورًا عميقًا بالانتماء والترابط، حيث ينظر إليها كجسد واحد يطيع لتحقيق أهداف مشتركة. وقد شكلت هذه الدولة، التي ترتبط عادة بالمذهب السني، الخلفية السياسية والفكرية للإسلاميين في تركيا.

وبناءً على ذلك، يمكن وصف الوضع الجديد الذي نشأ بعد إلغاء الخلافة، بتحول المسلمين إلى أعضاء بدون جسد. فبعد إلغاء الكيان السياسي القديم الذي أحياه الإسلام، واستبداله بكيان اجتماعي وسياسي جديد، يحكم نفس الأعضاء (جمهور الرعية). وكان الكيان الجديد يدعي الحق في الموارد البشرية وفي السطوة على المؤسسات التي منحت الحياة للكيان القديم. وكان أحد أهم أسباب الإصرار على تغيير المظهر الخارجي هو محاولة إلباس الأفراد الذين اعتبروا أنفسهم جزءًا من الروح السياسية القديمة، ملابس جديدة تلائم الروح السياسية الجديدة لجعلهم جزءًا منها.

وبالطبع، كان لهذا الشكل من الاستيلاء الجسدي بعدٌ وثيق الصلة بالحداثة.

كان يُنظر إلى خضوع الناس لنمط من الثياب لا يعبر عن رمزيّة ما يؤمنون به، ويمثل جسدًا سياسيًا لا يعتقدون فيه، على أنه أمر كافٍ في البداية. وبدا الأمر كما لو أن الحداثة لا تمثل تحديًا للإيمان والعقيدة، ما دام أن الناس التزموا بهذه الأعمال (الظاهرية).

ولكن الصورة لم تكن على هذا النحو بالنسبة للأشخاص الذين واجهوا حقيقة غياب الخلافة، فقد بدا الترابط بين ما يؤمن به الإنسان وما يفعله أمرًا جوهريًا، و(ثورة القبعات) التي واجهوها كانت بمثابة اختبار حقيقي للإيمان والعمل، بما تحمله من دلالات على إحياء كيانات سياسية بديلة للإسلام، ولذلك تحولت ردود الفعل الأولية على الخلافة الغائبة إلى مأساة حقيقية.

وعليه، بدأت عملية إلغاء الخلافة بشكل عام بصدمة وعي خطيرة للمسلمين في مناطق شتى من العالم، ولا سيما للمسلمين الأتراك. وعقب الآثار الأولية لهذه الصدمة، لم يتقبل المفكرون الإسلاميون، الذين سعوا جاهدين لفهم ما كان يجري، هذا الوضع كحالة مستدامة للمسلمين.

ففي ظل الظروف المستجدة، حرمت الحياة الإسلامية من مختلف أنواع التواصل. وأصبح فقه "الحالات المؤقتة" من أبرز الأدبيات الإسلامية المبكرة في فترة ما بعد الخلافة. ومع استمرار هذا الظرف الطارئ (أو حالة غياب الخلافة)، تبلورت ردود أفعال ونتائج وتطلعات متباينة لدى الإسلاميين. وهذا جانب جدير بالتأمل والتركيز عليه بعناية لفهم أوضاع المسلمين الراهنة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة